الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ رَبِّهِمْ، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، يَقُولُ: يَأْخُذُونَ الرِّشَى فِي أَحْكَامِهِمْ، وَيُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهمْ كُتُبًا ثُمَّ يَقُولُونَ: "هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"، وَيَأْخُذُونَ بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ سَِفْلَتِهِمْ {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، يَقُولُ: وَيَمْنَعُونَ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ الدُّخُولَ فِيهِ، بِنَهْيِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْهُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، أَمَّا "الْأَحْبَارُ"، فَمِنَ الْيَهُودِ. وَأَمَّا "الرُّهْبَانُ"، فَمِنَ النَّصَارَى. وَأَمَّا "سَبِيلُ اللَّهِ"، فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنـزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، وَيَأْكُلُهَا أَيْضًا مَعَهُمْ {الَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، يَقُولُ: بَشِّرِ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِعَذَابٍ أَلِيمٍ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مُوجِعٍ مِنَ اللَّهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى "الْكَنْـزِ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَلَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ. قَالُوا: وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وَلَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُلُّ مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا. وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ، فَهُوَ الكَنْـزُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجُنَيْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمِّيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَالٍ أَدَّيْتَ مِنْهُ الزَّكَاةَ فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا. وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا، فَهُوَ كَنْـزٌ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَيُّمَا مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ. وَأَيُّمَا مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ، فَهُوَ كَنْـزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَجَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِيَنِ. وَمَا لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْـزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا. قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَمَّا {الَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ، وَ "الكَنْـزُ"، مَا لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، وَإِنْ قَلَّ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا قَدْ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ، فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَامِرٍ: مَالٌ عَلَى رَفٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، أَكَنْـزٌ هُوَ؟ قَالَ: يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ مَالٍ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَهُوَ كَنْـزٌ أَدَّيْتَ مِنْهُ الزَّكَاةَ أَوْ لَمْ تُؤَدِّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلَيٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَا دَوَّنَهَا "نَفَقَةً"، فَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ "كَنْـزٌ"، حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلَيٍّ مَثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّعْبِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلَيٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَهَا كَنْـزٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْكَنْـزُ" كُلُّ مَا فَضَلَ مِنَ الْمَالِ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُجِيبٍ قَالَ: كَانَ نَعْلُ سَيْفِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ فِضَّةٍ، فَنَهَاهُ عَنْهَا أَبُو ذَرٍّ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: «لَمَّا نَـزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَبًّا لِلذَّهَبِ! تَبًّا لِلْفِضَّةِ! يَقُولُهَا ثَلَاثًا، قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: فَأَيَّ مَالٍ نَتَّخِذُ؟ ! فَقَالَ عُمْرُ: أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ ذَلِكَ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَصْحَابَكَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: فَأَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ: لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ، بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَأَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: اسْأَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ. قَالَ: فَأَدْرَكْتُهُ عَلَى بَعِيرٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: فَأَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً، تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي أمامةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ منْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيَّةٌ! ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيَّتَانِ! حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ صَدِيَّ بْنِ عِجْلَانَ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «مَاتَ رَجُلٌ: منْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيَّةٌ! ثُمَّ تُوفِّيَ آخَرُ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: كَيَّتَان»! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، «عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ، وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: لَوَدِدْنَا أَنَّا عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ إِذْ نَـزَلَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا نَـزَلَ! فَقَالَ عُمَرُ: إِنْ شِئْتُمْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ! فَقَالُوا: أَجَلْ! فَانْطَلَقَ، فَتَبِعْتُهُ أُوْضِعُ عَلَى بَعِيرِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا أَنْـزَلَ قَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّا عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ! فَيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَالٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ يَحْرُمُ عَلَى صَاحِبِهِ اكْتِنَازُهُ، وَإِنْ كَثُرَ وَأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ تُؤَّدَ زَكَاتُهُ فَصَاحِبَهُ مُعَاقَبٌ مُسْتَحِقٌّ وَعِيدَ اللَّهِ، إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ وَإِنْ قَلَّ، إِذَا كَانَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ فِي خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ رُبْعَ عُشْرِهَا، وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالَا مِنَ الذَّهَبِ مِثْلَ ذَلِكَ، رُبْعَ عُشْرِهَا، فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ فَرْضَ اللَّهِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَالِ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْكَثْرَةِ أُلُوفَ أُلُوفٍ، لَوْ كَانَ وَإِنْ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ مِنَ الْكُنُوزِ الَّتِي أَوْعَدَ اللَّهُ أَهْلَهَا عَلَيْهَا الْعِقَابَ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ الزَّكَاةُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ رُبْعِ الْعُشْرِ. لِأَنَّ مَا كَانَ فَرْضًا إِخْرَاجٌ جَمِيعِهِ مِنَ الْمَالِ، وَحَرَامٌ اتِّخَاذُهُ، فَزَكَاتُهُ الْخُرُوجُ مِنْ جَمِيعِهِ إِلَى أَهْلِهِ، لَا رُبْعُ عُشْرِهِ. وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْغَاصِبِ إِمْسَاكُهُ، وَفَرْضٌ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِهِ. التَّطَهُّرُ مِنْهُ: رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، فَلَوْ كَانَ مَا زَادَ مِنَ الْمَالِ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَوْ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ رَبِّهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِاقْتِنَائِهِ إِذَا أَدَّى إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ حُقُوقَهُمْ مِنْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ وَعِيدَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنِ اللَّازِمُ رَبَّهُ فِيهِ رُبْعُ عُشْرِهِ، بَلْ كَانَ اللَّازِمُ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ جَمِيعِهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَصَرْفَهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَرْفُهُ، كَالَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى غَاصِبِ رَجُلٍ مَالَهُ، رَدُّهُ عَلَى رَبِّهِ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ فِيمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ إِبِلًا إِلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا-حَسِبْتُهُ قَالَ: وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا- يَرُدُّ أُولَاهَا عَلَى أُخَرَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ. وَإِنْ كَانَتْ غَنَمًا فَمِثْلُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهَا تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا». وَفِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي كَرِهْنَا الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا، الدَّلَالَةَ الْوَاضِحَةَ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي لَمَّ تُؤَدَّ الْوَظَائِفُ الْمَفْرُوضَةُ فِيهَا لِأَهْلِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، لَا عَلَى اقْتِنَائِهَا وَاكْتِنَازِهَا؛ وَفِيمَا بَيَّنَا مِنْ ذَلِكَ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لِخَاصٍّ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، يَقُولُ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقَالَ: هِيَ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "هِيَ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ"، هِيَ خَاصَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ مِنْهُمْ، وَعَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِنْ أَنْفَقُوا. يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، مَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا}، إِلَى قَوْلِهِ: {هَذَا مَا كَنَـزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِـزُونَ}، قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: وَكُلُّ مَالٍ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ فِي بَطْنِهَا، فَهُوَ كَنْـزٌ وَكُلُّ مَالٍ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْـزٍ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ فِي بَطْنِهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، قَالَ: "الْكَنْـزُ"، مَا كُنِـزَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَفَرِيضَتِهِ، وَذَلِكَ "الْكَنْـزُ". وَقَالَ: افْتُرِضَتِ الزَّكَاةُ وَالصَّلَاةُ جَمِيعًا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: "ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ"، لِأَنَّ "الْكَنْـزَ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كُلُّ شَيْءٍ مَجْمُوعٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فِي بَطْنِ الْأَرْضِ كَانَ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا دَرَّ دَرِّيَ إِنْ أَطْعَمْـتُ نَـازِلَهُمْ *** قَـرْفَ الْحَـتِيِّ وعِنْـدِي الْـبُرُّ مَكْنُوزُ يَعْنِي بِذَلِكَ: وَعِنْدِي الْبَرُّ مَجْمُوعٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْبَدَنِ الْمُجْتَمَعِ: "مُكْتَنِـزٌ"، لِانْضِمَامِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى "الْكَنْـزِ"، عِنْدَهُمْ، وَكَانَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، مَعْنَاهُ: وَالَّذِينَ يَجْمَعُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي التِّلَاوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ بَيَانٌ كَمِّ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي إِذَا جُمِعَ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ خُصُوصَ ذَلِكَ إِنَّمَا أُدْرِكَ، لِوَقْفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ الْمَالُ الَّذِي لَمَّ يَؤَدَّ حَقُّ اللَّهِ مِنْهُ مِنَ الزَّكَاةِ دُونَ غَيْرِهِ، لِمَا قَدْ أَوْضَحْنَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يَقُولُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ كَنْـزٍ غَيْرَ أَنَّهَا خَاصَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ بِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَصِينٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَصِينٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بالرَّبَذَةِ، فَلَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا أَنْـزَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَقَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا، إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ! قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّهَا لَفِينَا وَفِيهِمْ! قَالَ: فَارْتَفَعَ فِي ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْقَوْلُ، فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْبَلْ إِلَيَّ! قَالَ: فَأَقْبَلْتُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ رَكِبَنِي النَّاسُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ يَوْمئِذٍ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لِي: تَنَحَّ قَرِيبًا. قُلْتُ: وَاللَّهِ لَنْ أَدَعَ مَا كُنْتُ أَقُولُ! حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالُوا، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَصِينٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْنَا بِالرَّبَذَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَشْعَثَ وَهِشَامٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْتُ إِلَى الشَّأْمِ، فَقَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّمَا هِيَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ! قَالَ فَقُلْتُ: إِنَّهَا لَفِينَا وَفِيهِمْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَصِينٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ لَهُ: مَا أَنْـزَلَكَ مَنْـزِلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: فَقَالَ: نَـزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَـزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، عَنْ حَصِينٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ قِيلَ: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فَأُخْرِجَتِ "الْهَاءُ" وَ”الْأَلْفُ" مُخْرَجَ الْكِنَايَةِ عَنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ. قِيلَ: يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ "الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ" مُرَادًا بِهَا الْكُنُوزُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الْكُنُوزَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ هِيَ "الْكُنُوزُ"، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ اسْتَغْنَى بِالْخَبَرِ عَنْ إِحْدَاهُمَا فِي عَائِدِ ذِكْرِهِمَا، مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْأُخْرَى، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى الْخَبَرِ عَنِ الْأُخْرَى مِثْلَ الْخَبَرِ عَنْهَا، وَذَلِكَ كَثِيرٌ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْـنُ بِمَـا عِنْدَنَـا وأَنْـتَ بِمَـا *** عِنْـدَكَ رَاضٍ، وَالـرَّأْيُ مُخْـتَلِفُ فَقَالَ: "رَاضٍ"، وَلَمْ يَقُلْ: "رَاضُونَ"، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّ شَـرْخَ الشَّـبَابِ والشَّـعَرَ الأسْ *** وَدَ مَـا لَـمْ يُعَـاصَ كـانَ جُنُونَـا فَقَالَ: "يُعَاصَ"، وَلَمْ يَقُلْ: "يُعَاصَيَا" فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}، [سُورَةُ الْجُمْعَةَ: 11]، وَلَمْ يَقُلْ: "إِلَيْهِمَا"
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَـزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِـزُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبَشِّرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلَا يُخْرِجُونَ حُقُوقَ اللَّهِ مِنْهَا، يَا مُحَمَّدُ، بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}، فَـ "الْيَوْمُ" مِنْ صِلَةِ "الْعَذَابِ الْأَلِيمِ"، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُبَشِّرُهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي يَوْمٍ يُحْمَى عَلَيْهَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {يُحْمَى عَلَيْهَا}، تَدْخُلُ النَّارَ فَيُوقَدُ عَلَيْهَا، أَيْ: عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي كَنَـزُوهَا {فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}. وَكُلُّ شَيْءٍ أُدْخِلَ النَّارَ فَقَدْ أُحْمِيَ إِحْمَاءً، يُقَالُ مِنْهُ: "أَحَمَيْتُ الْحَدِيدَةَ فِي النَّارِ أَحْمِيهَا إِحْمَاءً". وَقَوْلُهُ: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ}، يَعْنِي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمَكْنُوزَةِ، يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَكْوِي اللَّهُ بِهَا. يَقُولُ: يَحْرِقُ اللَّهُ جِبَاهَ كَانِـزِيهَا وَجَنُوبَهُمْ وَظُهُورَهُمْ {هَذَا مَا كَنَـزْتُمْ}، وَمَعْنَاهُ: وَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا مَا كَنَـزْتُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الَّذِينَ مَنَعُوا كُنُوزَهُمْ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا لِأَنْفُسِكُمْ {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِـزُونَ}، يَقُولُ: فَيُقَالُ لَهُمْ: فَاطَْعَمُوا عَذَابَ اللَّهِ بِمَا كُنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ حُقُوقَ اللَّهِ وَتَكْنِـزُونَهَا مُكَاثَرَةً وَمُبَاهَاةً. وَحُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: {هَذَا مَا كَنَـزْتُمْ} وَ"يُقَالُ لَهُمْ"، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: بَشِّرِ الْكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي الْجِبَاهِ، وَكَيٍّ فِي الْجُنُوبِ، وَكَيٍّ فِي الظُّهُورِ، حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ. قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مَلَأٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثِّيَابِ، أَخْشَنُ الْجَسَدِ، أَخْشَنُ الْوَجْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَشِّرِ الْكِنَازَيْنَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعَ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ، يَتَزَلْزَلُ، قَالَ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسهمْ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا. قَالَ: وَأَدْبَرَ، فَاتَّبَعْتُهُ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَرِهُوا مَا قُلْتَ! فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُمَلِيِّ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ رَجُلًا غَلِيظَ الثِّيَابِ، رَثَّ الْهَيْئَةِ، يَطُوفُ فِي الْحِلَقِ وَهُوَ يَقُولُ: بَشِّرْ أَصْحَابَ الْكُنُوزِ بِكَيٍّ فِي جُنُوبِهِمْ، وَكَيٍّ فِي جِبَاهِهِمْ، وَكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ! ثُمَّ انْطَلَقَ وَهُوَ يَتَذَمَّرُ يَقُولُ مَا عَسَى تَصْنَعُ بِي قُرَيْشٌ!! حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: بَشِّرْ أَصْحَابَ الْكُنُوزِ بِكَيٍّ فِي الْجِبَاهِ، وَكَيٍّ فِي الْجُنُوبِ، وَكَيٍّ فِي الظُّهُورِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَابُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}، قَالَ: حَيَّةٌ تَنْطَوِي عَلَى جَبِينِهِ وَجَبْهَتِهِ تَقُولُ: أَنَا مَالُكَ الَّذِي بَخِلْتَ بِهِ! حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ثَوْبَانَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنْـزًا مَثُلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يَتْبَعُهُ يَقُولُ: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا كَنْـزُكَ الَّذِي تَرَكْتَهُ بَعْدَكَ! فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضِمُهَا، ثُمَّ يَتْبَعُهُ سَائِرَ جَسَدِهِ». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْكُنُوزَ تَتَحَوَّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا يَتْبَعُ صَاحِبَهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، وَيَقُولُ: أَنَا كَنْـزُكَ! لَا يُدْرِكُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا أَخَذَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَا يُكْوَى عَبْدٌ بِكَنْـزٍ فَيَمَسُّ دِينَارٌ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمٌ دِرْهَمًا، وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ، فَيُوضَعُ كُلُّ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ عَلَى حِدَّتِهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يُكْوَى بِكَنْـزٍ فَيُوضَعُ دِينَارٌ عَلَى دِينَارٍ وَلَا دِرْهَمٌ عَلَى دِرْهَمٍ، وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ عِدَّةَ شُهُورِ السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، الَّذِي كُتِبَ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ فِي قَضَائِهِ الَّذِي قَضَى {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، يَقُولُ: هَذِهِ الشُّهُورُ الِاثْنَا عَشَرَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حُرُمٌ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُنَّ، وَتُحَرِّمُهُنَّ، وَتُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِيهِنَّ، حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِيهِنَّ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَهِجْهُ، وَهُنَّ: رَجَبُ مُضَرَ وَثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ. وَبِذَلِكَ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى فِي أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، أَوَّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ، وَرَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان». حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ بِالْبَحْرَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ «قَوْلُهُ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ مِنًى: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، أَمَّا {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، فَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ. وَأَمَّا (كِتَابُ اللَّهِ)، فَالَّذِي عِنْدَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}، قَالَ: يُعْرَفُ بِهَا شَأْنُ النَّسِيءِ، مَا نَقَصَ مِنَ السَّنَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ}، قَالَ: يَذْكُرُ بِهَا شَأْنَ النَّسِيءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: هَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، مِنْ أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّ مِنْهَا أَرْبَعَةً حُرُمًا: هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)، يَقُولُ: الْمُسْتَقِيمُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)، قَالَ: الْأَمْرُ الْقَيِّمُ. يَقُولُ: قَالَ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَأَنَّ مِنْ هَذِهِ الِاثْنَىْ عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حُرَمًا، ذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، لَا مَا يَفْعَلُهُ النَّسِيءُ مِنْ تَحْلِيلِهِ مَا يُحَلِّلُ مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ، وَتَحْرِيِمِهِ مَا يُحَرِّمُهُ مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَلَا تَعْصُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلَا تُحِلُّوا فِيهِنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتَكْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ. كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، قَالَ: الظُّلْمُ الْعَمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، وَالتَّرْكُ لِطَاعَتِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي عَادَتْ عَلَيْهِ "الْهَاءُ"، وَ "النُّونُ" فِي قَوْلِهِ: (فِيهِنَّ). فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَادَ ذَلِكَ عَلَى "الْاثْنَى الْعَشَرَ شَهْرًا"، وَقَالَ: مَعْنَاهُ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي الْأَشْهُرِ كُلِّهَا أَنْفُسَكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، فِي كُلِّهِنَّ، ثُمَّ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، قَالَ: فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْفُسَكُمْ وَ "الهَاءُ وَالنُّونُ" عَائِدَةٌ عَلَى "الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا، مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ. وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تَعْظُمُ الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي تَصْيِيرِكُمْ حَرَامَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ حَلَالًا وَحَلَالَهَا حَرَامًا أَنْفُسَكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}: أَيْ: لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا وَلَا حَلَالَهَا حَرَامًا، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الشِّرْكِ، فَإِنَّمَا النَّسِيءُ، الَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، قَالَ: "ظُلْمُ أَنْفُسِكُمْ"، أَنْ لَا تُحَرِّمُوهُنَّ كَحُرْمَتِهِنَّ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، قَالَ: "ظُلْمُ أَنْفُسِكُمْ"، أَنْ لَا تُحَرِّمُوهُنَّ كَحُرْمَتِهِنَّ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ أَنْفُسَكُمْ، بِاسْتِحْلَالِ حَرَامِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَظَّمَهَا وَعَظَّمَ حُرْمَتَهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِهِ، لِقَوْلِهِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ}، فَأَخْرَجَ الْكِنَايَةَ عَنْهُ مُخْرَجَ الْكِنَايَةِ عَنْ جَمْعِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِيمَا بَيْنُ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ، إِذَا كَنَتْ عَنْهُ: "فَعَلْنَا ذَلِكَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ، وَلِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَقِينَ" وَإِذَا أَخْبَرَتْ عَمَّا فَوْقَ الْعَشْرَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ قَالَتْ: "فِعْلنَا ذَلِكَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ، وَلِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَضَتْ" فَكَانَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، وَإِخْرَاجِهِ كِنَايَةُ عَدَدِ الشُّهُورِ الَّتِي نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ فِيهِنَّ مُخْرَجَ عَدَدِ الْجَمْعِ الْقَلِيلِ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنْ "الْهَاءَ وَالنُّونَ"، مِنْ ذِكْرِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، دُونَ الِاثْنَى الْعَشَرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كِنَايَةً عَنْ "الِاثْنَى عَشَرَ شَهْرًا"، لَكَانَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهَا أَنْفُسَكُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ "الِاثْنَى عَشَرَ"، وَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَكَرْتَ هُوَ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؟ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ [مِنَ] الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِهَا، إِخْرَاجَ كِنَايَةِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرِ، بِالْهَاءِ دُونَ النُّونِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: أَصْبَحْـنَ فِـي قُـرْحٍ وَفِـي دَارَاتِهَـا *** سَـبْعَ لَيَـالٍ غَـيْرَ مَعْلُوفَاتِهَـا وَلَمْ يَقُلْ: "مَعْلُوفَاتِهِنَّ"، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ "السَّبْعِ"؟ قِيلَ: إِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، فَلَيْسَ الْأَفْصَحَ الْأَعْرَفَ فِي كَلَامِهَا. وَتَوْجِيهُ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَفْصَحِ الْأَعْرَفِ، أَولَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْأَنْكَرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لَنَا ظُلْمُ أَنْفُسِنَا فِي غَيْرِهِنَّ مِنْ سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ! قِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْنَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَظَّمَ حُرْمَةَ هَؤُلَاءِ الْأَشْهُرِ وَشَرَّفَهُنَّ عَلَى سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ، فَخَصَّ الذَّنْبَ فِيهِنَّ بِالتَّعْظِيمِ، كَمَا خَصَّهُنَّ بِالتَّشْرِيفِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 238]، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ كُلِّهَا بِقَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}، وَلَمْ يُبِحْ تَرْكَ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِنَّ، بِأَمْرِهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ زَادَهَا تَعْظِيمًا، وَعَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا تَوْكِيدًا وَفِي تَضْيِيعِهَا تَشْدِيدًا، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}،. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، فَإِنَّهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، جَمِيعًا غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ، مُؤْتَلِفِينَ غَيْرَ مُفْتَرِقِينَ، كَمَا يُقَاتِلُكُمُ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا، مُجْتَمَعَيْنِ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، أَمَّا "كَافَّةً"، فَجَمِيعٌ، وَأَمْرُكُمْ مُجْتَمَعٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، يَقُولُ: جَمِيعًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَقَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}: أَيْ: جَمِيعًا. وَ "الكَافَّةُ" فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا تُذَكَّرُ وَلَا تُجْمَعُ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظِ "فَاعِلَةٍ"، فَإِنَّهَا فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَـ "العَافِيَةِ" وَ "العَاقِبَةِ"، وَلَا تُدْخِلُ الْعَرَبُ فِيهَا "الْأَلِفَ وَاللَّامَ"، لِكَوْنِهَا آخِرَ الْكَلَامِ، مَعَ الَّذِي فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا لَمْ يُدْخُلُوهَا إِذَا قَاتَلُوا: "قَامُوا مَعًا"، وَ"قَامُوا جَمِيعًا". وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، أَنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، وَاتَّقَيْتُمُ اللَّهَ فَأَطَعْتُمُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ، وَلَمْ تُخَالِفُوا أَمْرَهُ فَتَعْصُوهُ، كَانَ اللَّهُ مَعَكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَعَدُوِّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَغْلِبْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ اللَّهَ مَعَ مَنِ اتَّقَاهُ فَخَافَهُ وَأَطَاعَهُ فِيمَا كَلَّفَهُ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا النَّسِيءُ إِلَّا زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ. وَ "النَّسِيءُ" مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "نَسَأْتَ فِي أَيَّامِكَ، وَنَسَأَ اللَّهُ فِي أَجْلِكَ"، أَيْ: زَادَ اللَّهُ فِي أَيَّامِ عُمْرِكَ وَمُدَّةَ حَيَاتِكَ، حَتَّى تَبْقَى فِيهَا حَيًّا. وَكُلُّ زِيَادَةٍ حَدَّثَتْ فِي شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ الْحَادِثُ فِيهِ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِسَبَبِ مَا حَدَثَ فِيهِ: "نَسِيءٌ". وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَبَنٍ إِذَا كُثِّرَ بِالْمَاءِ: "نَسِيءٌ"، وَقِيلَ لِلْمَرْأَةِ الْحُبْلَى: "نَسُوءُ"، وَ"نُسِئَتِ الْمَرْأَةُ"، لِزِيَادَةِ الْوَلَدِ فِيهَا، وَقِيلَ: "نَسَأَتُ النَّاقَةَ وَأَنْسَأْتُهَا"، إِذَا زَجَرْتُهَا لِيَزْدَادَ سَيْرُهَا. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ: "النَّسِيءَ"، "فَعِيلٌ" صُرِفَ إِلَيْهِ مِنْ "مَفْعُولٍ"، كَمَا قِيلَ: "لَعِينٌ" وَ"قَتِيلٌ"، بِمَعْنَى: مَلْعُونٍ وَمَقْتُولٍ. وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا الشَّهْرُ الْمُؤَخَّرُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ. وَكَأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا التَّأْخِيرُ الَّذِي يُؤَخِّرُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ مِنْ شُهُورِ الْحُرُمِ الْأَرْبَعَةِ، وَتَصْيِيرِهِمُ الْحَرَامَ مِنْهُنَّ حَلَالًا وَالْحَلَالَ مِنْهُنَّ حَرَامًا، زِيَادَةٌ فِي كُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقَرَأَةِ يَقْرَأُ ذَلِكَ: {إِنَّمَا النَّسْيُ} بِتَرْكِ الْهَمْزِ، وَتَرْكِ مَدِّهِ: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}،. وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْكُوفِيِّينَ: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بِمَعْنَى: يُضِلُّ اللَّهُ بِالنَّسِيءِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ وَأَحْدَثُوهُ، الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، بِمَعْنَى: يَزُولُ عَنْ مَحَجَّةِ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهُ إِلَى مَرْضَاتِهِ، الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، بِمَعْنَى: يَضِلُّ بِالنَّسِيءِ الَّذِي سَنَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، النَّاسَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، قَدْ قَرَأَتْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ الْقَرَأَةُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى. لِأَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَهُوَ "ضَالٌّ"، وَمَنْ ضَلَّ فَبِإِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَخِذْلَانِهِ لَهُ ضَلَّ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ لِلصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مُصِيبٌ. وَأَمَّا الصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي "النَّسِيءِ"، فَالْهَمْزَةُ، وَقِرَاءَتهُ عَلَى تَقْدِيرِ "فَعِيلٍ" لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي قَرَأَة الْأَمْصَارِ الَّتِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا فِيمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يُحِلُّونَهُ عَامًا}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: يُحِلُّ الَّذِينَ كَفَرُوا النَّسِيءَ وَ "الهَاءُ" فِي قَوْلِهِ: (يَحِلُّونَهُ)، عَائِدَةٌ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: يَحِلُّونَ الَّذِي أَخَّرُوا تَحْرِيمَهُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، عَامًا {وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}، يَقُولُ: لِيُوَافِقُوا بِتَحْلِيلِهِمْ مَا حَلَّلُوا مِنَ الشُّهُورِ، وَتَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوا مِنْهَا، عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ}، يَقُولُ: حُسِّنَ لَهُمْ وَحُبِّبَ إِلَيْهِمْ سَيِّئُ أَعْمَالِهِمْ وَقَبِيحِهَا، وَمَا خُولِفَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِمَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ وَجَمِيلِهَا، وَمَا لِلَّهِ فِيهِ رِضًى، الْقَوْمَ الْجَاحِدِينَ تَوْحِيدَهُ، وَالْمُنْكِرِينَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ يُخَذِّلُهُمْ عَنِ الْهُدَى، كَمَا خَذَّلَ هَؤُلَاءِ النَّاسَ عَنِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، قَالَ: "النَّسِيءُ"، هُوَ أَنَّ "جُنَادةَ بْنُ عَوْفِ بْنِ أُمِّيَّةَ الْكِنَانِيَّ"، كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ، وَكَانَ يُكَنَّى" أَبَا ثُمَامَةَ "، فَيُنَادِي: "أَلَّا إِنَّ أَبَا ثُمَامَةَ لَا يُحَابُ وَلَا يُعَابُ، أَلَا وَإِنَّ صَفَرَ الْعَامِ الْأَوَّلِ الْعَامَ حَلَالٌ"، فَيَحِلُّهُ النَّاسُ، فَيُحْرِّمُ صَفَرَ عَامًا، وَيُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ عَامًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، إِلَى قَوْلِهِ: (الْكَافِرِينَ). وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، يَقُولُ: يَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَ عَامًا، وَعَامًا يُحَرِّمُونَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (النَّسْيُ)، بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ وَتَرْكِ الْمَدِّ، وَتَوْجِيهِهِ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّهُ "فَعْلٌ"، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "نَسِيَتِ الشَّيْءَ أَنْسَاهُ"، وَمِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 67]، بِمَعْنَى: تَرَكُوا اللَّهَ فَتَرَكَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، قَالَ: فَهُوَ الْمُحَرَّمُ، كَانَ يُحَرَّمُ عَامًا، وَصَفَرٌ عَامًا، وَزِيدَ صَفَرٌ آخَرُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَكَانُوا يَحْرِمُونَ صَفْرًا مَرَّةً، وَيَحِلُّونَهُ مَرَّةً، فَعَابَ اللَّهُ ذَلِكَ. وَكَانَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَبَنُو سُلَيْمٍ تَفْعَلُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، قَالَ: كَانَ "النَّسِيء" رَجُلًا منْ بَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ فِيهِمْ، وَكَانَ يَجْعَلُ سَنَةً الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، فَيَغْزُونَ فِيهِ، فَيَغْنَمُونَ فِيهِ، وَيُصِيبُونَ، وَيُحَرِّمُهُ سَنَةً. قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الْآيَةَ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُسَمَّى " النَّسِيءَ "، فَكَانَ يَجْعَلُ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَسْتَحِلُّ فِيهِ الْغَنَائِمَ، فنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ قَالَ، سَمِعْتُ لَيْثًا، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يَأْتِي كُلَّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَيَقُولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَا أُعَابُ وَلَا أحَابُ، وَلَا مَرَدَّ لِمَا أَقُولُ، إِنَّا قَدْ حَرَّمْنَا الْمُحَرَّمَ، وَأَخَّرْنَا صَفَرَ"، ثُمَّ يَجِيءُ الْعَامُ الْمُقْبِلُ بَعْدَهُ فَيَقُولُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، وَيَقُولُ: "إِنَّا قَدْ حَرَّمْنَا صَفَرَ وَأَخَّرْنَا الْمُحَرَّمَ"، فَهُوَ قَوْلُهُ: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}، قَالَ: يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}، لِتَأْخِيرِ هَذَا الشَّهْرِ الْحَرَامِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، "النَّسِيءُ"، الْمُحَرِّمُ، وَكَانَ يُحَرَّمُ الْمُحَرَّمُ عَامًا وَيُحَرَّمُ صَفَرٌ عَامًا، فَالزِّيَادَةُ "صَفَرُ"، وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَ الشُّهُورَ حَتَّى يَجْعَلُونَ صَفَرَ الْمُحَرَّمَ، فَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَكَانَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَبَنُو سُلَيْمٍ يُعَظِّمُونَهُ، هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، إِلَى قَوْلِهِ: (الْكَافِرِينَ)، عَمَدَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَزَادُوا صَفَرًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَكَانَ يَقُومُ قَائِمُهُمْ فِي الْمَوْسِمِ فَيَقُولُ: "أَلَا إِنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتِ الْعَامَ الْمُحَرَّمَ"، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَقُولُ: "أَلَا إِنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتْ صَفَرَ"، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا "الصِّفَرَانِ". قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ النَّسِيءَ: بَنُو مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً: أَبُو ثُمَامَةَ صَفْوَانُ بْنُ أُمِّيَّةَ أَحَدُ بَنِي فَقِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ أَحُدُ بَنِي كِنَانَةَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الْحَجَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمَّوْنَ الْأَشْهُرَ: ذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَصَفَرُ، وَرَبِيعٌ، وَرَبِيعٌ، وَجُمَادَى، وَجُمَادَى، وَرَجَبٌ، وَشَعْبَانُ، وَرَمَضَانُ، وَشَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، يَحُجُّونَ فِيهِ مَرَّةً، ثُمَّ يَسْكُتُونَ عَنِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَذْكُرُونَهُ، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيُسَمُّونَ صَفَرَ صَفَرَ، ثُمَّ يُسَمَّوْنَ رَجَبًا جُمَادَى الْآخِرَةَ، ثُمَّ يُسَمَّوْنَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ، ثُمَّ يُسَمَّوْنَ رَمَضَانَ شَوَّالًا ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْقِعْدَةِ شَوَّالًا ثُمَّ يُسَمَّوْنَ ذَا الْحِجَّةِ ذَا الْقِعْدَةِ، ثُمَّ يُسَمَّوْنَ الْمُحَرَّمَ ذَا الْحِجَّةِ، فَيَحُجُّونَ فِيهِ، وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ ذُو الْحِجَّةِ، ثُمَّ عَادُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ، حَتَّى وَافَقَ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْآخَرَ مِنَ الْعَامَيْنِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ الَّتِي حَجَّ، فَوَافَقَ ذَا الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، قَالَ: حَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صِفَرَ عَامَيْنِ، فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ، حَتَّى وَافَقَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ الْآخَرَ مِنَ الْعَامَيْنِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، قَبْلَ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَةٍ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَابِلٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، قَالَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشْرًا شَهْرًا، فَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، فَيَسْتَحِلُّونَ فِيهِ الْحُرُمَاتِ، فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ. قَالَ: هَذَا رَجُلٌ منْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ: " القَلَمَّسُ "، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، يَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ فَلَا يَمُدُّ إِلَيْهِ يَدَهُ، فَلَمَّا كَانَ هُوَ، قَالَ: "اخْرُجُوا بِنَا"، قَالُوا لَهُ: "هَذَا الْمُحَرَّمُ"! فَقَالَ: "نُنْسِئُهُ الْعَامَ، هُمَا الْعَامَ صَفَرَانِ، فَإِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ قَضَيْنَا، فَجَعَلْنَاهُمَا مُحَرَّمَيْنِ". قَالَ: فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ قَالَ: "لَا تَغْزُوَا فِي صَفَرٍ، حَرِّمُوهُ مَعَ الْمُحَرَّمِ، هُمَا مُحَرَّمَانِ، الْمُحَرَّمُ أَنْسَأْنَاهُ عَامًا أَوَّلَ وَنَقْضِيهِ! ذَلِكَ "الْإِنْسَاءُ"، وَقَالَ مُنَافِرُهُمْ: وَمِنَّا مُنْسِي الشُّهُورِ القَلَمَّسُ وأَنْـزَلَ اللَّهُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ زِيَادَةُ كُفْرٍ بِالنَّسِيءِ، إِلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ قَبْلَ ابْتِدَاعِهِمُ النَّسِيءَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، يَقُولُ: ازْدَادُوا بِهِ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (لِيُوَاطِئُوا)، فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "وَاطَأْتُ فَلَانًا عَلَى كَذَا أُوَاطِئُهُ مُوَاطَأَةً"، إِذَا وَافَقْتُهُ عَلَيْهِ، مُعَيَّنًا لَهُ، غَيْرَ مُخَالِفٍ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}، يَقُولُ: يُشْبِهُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَذَلِكَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِمَّا بَيَّنَّا، وَذَلِكَ أَنَّ مَا شَابَهَ الشَّيْءَ، فَقَدْ وَافَقَهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي شَابَهَهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ بِعِدَّةِ الشُّهُورِ الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا، عِدَّة الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ، لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْهَا، وَإِنْ قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا، فَذَلِكَ مُوَاطَأَةُ عِدَّتِهِمْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ حَثٌّ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ عَلَى غَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ غَزْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوكَ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (مَا لَكُمْ)، أَيُّ شَيْءٍ أَمْرُكُمْ {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يَقُولُ: إِذَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ (انْفَرُوا)، أَيِ: اخْرُجُوا مِنْ مَنَازِلِكُمْ إِلَى مَغْزَاكُمْ. وَأَصْلُ "النَّفَرِ"، مُفَارَقَةُ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَمْرٍ هَاجَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهُ: "نُفُورًا الدَّابَّةَ". غَيْرَ أَنَّهُ يُقَالُ: مِنَ النَّفْرِ إِلَى الْغَزْوِ: "نَفَرَ فُلَانٌ إِلَى ثَغْرِ كَذَا يَنْفِرُ نَفْرًا وَنَفِيرًا"، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْفُرُوقِ الَّتِي يُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ اخْتِلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَإِنِ اتَّفَقَتْ مَعَانِي الْخَبَرِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: مَا لَكَمَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِذَا قِيلَ لَكُمُ: اخْرُجُوا غُزَاةً "فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، أَيْ: فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}، يَقُولُ: تَثَاقَلْتُمْ إِلَى لُزُومِ أَرْضِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ وَالْجُلُوسِ فِيهَا. وَقِيلَ: "اثَّاقَلْتُمْ" لِإِدْغَامِ "التَّاءِ" فِي "الثَّاءِ" فَأُحْدِثَتْ لَهَا أَلْفٌ؛ لِيُتَوَصَّلَ إِلَى الْكَلَامِ بِهَا، لِأَنَّ "التَّاءَ" مُدْغَمَةٌ فِي "الثَّاءِ". وَلَوْ أُسْقِطَتِ الْأَلِفُ، وَابْتُدِئَ بِهَا، لَمْ تَكُنْ إِلَّا مُتَحَرِّكَةً، فَأُحْدَثَتِ الْأَلْفُ لِتَقَعَ الْحَرَكَةُ بِهَا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا}، [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 38]، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تُـولِي الضَّجِـيعَ إِذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا *** عَـذْبَ المَـذَاقِ، إِذَا مَـا اتَّـابَعَ القُبَـلُ [فَهُوَ مِنْ "الثِّقْلِ"، وَمَجَازُهُ مَجَازُ "افْتَعَلْتُمْ"]، مِنْ "التَّثَاقُلِ". وَقَوْلُهُ: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَرْضَيْتُمْ بِحَظِّ الدُّنْيَا وَالدَّعَةِ فِيهَا، عِوَضًا مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لِلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتِهِ {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ}، يَقُولُ: فَمَا الَّذِي يَسْتَمْتِعُ بِهِ الْمُتَمَتِّعُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَيْشِهَا وَلَذَّاتِهَا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ (إِلَّا قَلِيلٌ)، يَسِيرٌ. يَقُولُ لَهُمْ: فَاطْلُبُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، نَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَشَرَفَ الْكَرَامَةِ الَّتِي عِنْدَ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ، بِطَاعَتِهِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ إِلَى أَمْرِهِ فِي النَّفِيرِ لِجِهَادِ عَدُوِّهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}، أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَبَعْدَ الطَّائِفِ، وَبَعْدَ حُنَيْنٍ، أُمِرُوا بِالنَّفِيرِ فِي الصَّيْفِ، حِينَ خُرِفَتِ النَّخْلُ، وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهَوِا الظِّلَالَ، وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْمَخْرَجُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَبعْدَ الطَّائِفِ، أَمَرَهُمْ بِالنَّفِيرِ فِي الصَّيْفِ، حِينَ اخْتُرِفَتِ النَّخْلُ، وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهَوِا الظِّلَالَ، وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْمَخْرَجُ. قَالَ: فَقَالُوا: "الثَّقِيلُ"، ذُو الْحَاجَةِ، وَالضَّيْعَةِ، وَالشُّغْلِ، وَالْمُنْتَشِرُ بِهِ أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ. فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 41]
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ، مُتَوَعِّدَهُمْ عَلَى تَرْكِ النَّفْرِ إِلَى عَدُوِّهِمْ مِنَ الرُّومِ: إِنْ لَمْ تَنْفِرُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِلَى مَنِ اسْتَنْفَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، يُعَذِّبْكُمُ اللَّهُ عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا، بِتَرْكِكُمُ النَّفْرَ إِلَيْهِمْ، عَذَابًا مُوجِعًا {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}، يَقُولُ: يَسْتَبْدِلُ اللَّهُ بِكُمْ نَبِيَّهُ قَوْمًا غَيْرَكُمْ، يَنْفِرُونَ إِذَا اسْتُنْفِرُوا، وَيُجِيبُونَهُ إِذَا دُعُوْا، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}، يَقُولُ: وَلَا تَضُرُّوا اللَّهَ، بِتَرْكِكُمُ النَّفِيرَ وَمَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ أَهْلُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْكُمْ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاللَّهُ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ وَاسْتِبْدَالِ قَوْمٍ غَيْرِكُمْ بِكُمْ، وَعَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، قَدِيرٌ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ "الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَانَ احْتِبَاسَ الْقَطْرِ عَنْهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَالِدٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي نَجْدَةُ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، «سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ، فَأُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَذَابَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، عَنْ نَجْدَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَكَانَ عَذَابُهُمْ أَنْ أُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، اسْتَنْفَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي لَهَبَانِ الْحَرِّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قِبَلَ الشَّأْمِ، عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْدِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِح، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا قَالَ: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، وَقَالَ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلَتْهَا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}، إِلَى قَوْلِهِ: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 1]. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَا خَبَرَ بِالَّذِي قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ، مِنْ نَسْخِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَا، يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَلَا حُجَّةَ نَافٍ لِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَقَدْ رَأَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ عَدَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ سَنَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، الْخَاصَّ مِنَ النَّاسِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنِ اسْتَنْفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْفِرْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}، نَهْيًا مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِخْلَاءِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ مُؤْمِنٍ مُقِيمٍ فِيهَا، وَإِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ أَنَّ الْوَاجِبَ النَّفْرُ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ عَلَى مَنِ اسْتُنْفِرَ مِنْهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُسْتَنْفَرْ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ نَسْخٌ لِلْأُخْرَى، وَكَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَاضِيًا فِيمَا عُنِيَتْ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ أَصْحَابَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الْمُتَوَكِّلُ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَى أَعْدَاءِ دِينِهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَيْهِمْ دُونَهُمْ، أَعَانُوهُ أَوْ لَمْ يُعِينُوهُ، وَتَذْكِيرٌ مِنْهُ لَهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ بِهِ، وَهُوَ مِنَ الْعَدَدِ فِي قِلَّةٍ، وَالْعَدُوُّ فِي كَثْرَةٍ، فَكَيْفَ بِهِ وَهُوَ مِنَ الْعَدَدِ فِي كَثْرَةٍ، وَالْعَدُوُّ فِي قِلَّةٍ؟ يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِلَّا تَنْفِرُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مَعَ رَسُولِي إِذَا اسْتَنْفَرَكُمْ فَتَنْصُرُوهُ، فَاللَّهُ نَاصِرُهُ وَمُعِينُهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَمُغْنِيهِ عَنْكُمْ وَعَنْ مَعُونَتِكُمْ وَنُصْرَتِكُمْ؛ كَمَا نَصَرَهُ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، بِاللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ وَطَنِهِ وَدَارِهِ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، يَقُولُ: أَخْرَجُوهُ وَهُوَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ، أَيْ: وَاحِدٌ مِنَ الِاثْنَيْنِ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ: "هُوَ ثَانِي اثْنَيْنِ" يَعْنِي: أَحَدَ الِاثْنَيْنِ، وَ"ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ"، يَعْنِي: أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، وَأَحَدُ الْأَرْبَعَةِ. وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِهِمْ: "هُوَ أَخُو سِتَّةٍ، وَغُلَامُ سَبْعَةٍ"، لِأَنَّ "الْأَخَ"، وَ "الغُلَامَ" غَيْرُ السِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ، "وَثَالِثُ الثَّلَاثَةِ"، أَحَدُ الثَّلَاثَةِ. وَإِنَّمَا عَنَى-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُمَا كَانَا اللَّذَيْنِ خَرَجَا هَارِبَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ هَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَفَيَا فِي الْغَارِ. وَقَوْلُهُ: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}، يَقُولُ: إِذْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فِي الْغَارِ. وَ "الغَارُ"، النَّقْبُ الْعَظِيمُ يَكُونُ فِي الْجَبَلِ. {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، يَقُولُ: إِذْ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ، (لَا تَحْزَنْ)، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَافَ مِنَ الطَّلَبِ أَنْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِمَا، فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحْزَنْ"، لِأَنَّ اللَّهَ مَعَنَا وَاللَّهُ نَاصِرُنَا، فَلَنْ يَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ بِنَا وَلَنْ يَصِلُوا إِلَيْنَا. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى عَدْوِهِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْخَوْفِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ، فَكَيْفَ يَخْذُلُهُ ويُحْوِجُهُ إِلَيْكُمْ، وَقَدْ كَثَّرَ اللَّهُ أَنْصَارَهُ، وَعَدَدَ جُنُودِهِ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ}، ذَكَرَ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ شَأْنِهِ حِينَ بَعَثَهُ. يَقُولُ اللَّهُ: فَأَنَا فَاعِلٌ ذَلِكَ بِهِ وَنَاصِرُهُ، كَمَا نَصَرْتُهُ إِذْ ذَاكَ وَهُوَ ثَانِي اثْنَيْنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}، قَالَ: ذَكَرَ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ شَأْنِهِ حِينَ بُعِثَ، فَاللَّهُ فَاعِلٌ بِهِ كَذَلِكَ، نَاصِرُهُ كَمَا نَصَرَهُ إِذْ ذَاكَ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الْآيَةَ، قَالَ: فَكَانَ صَاحِبَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَمَّا "الْغَارُ"، فَجَبَلٌ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: " ثَوْرٌ ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَنِيحَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فَهَيْرَةَ فِي الْغَنَمِ إِلَى ثَوْرٍ. وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرُوحُ بِتِلْكَ الْغَنَمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَارِ فِي ثَوْرٍ، وَهُوَ "الْغَارُ" الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جُبَيْرٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ وَحِبَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ ثَابِتٍ، «عَنْ أَنْسٍ، أَنْ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ وَأَقْدَامُ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَ رُؤُوسِنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ أَبْصَرْنَا! فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ » حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرَّيْكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَكَثَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}، قَالَ: فِي الْجَبَلِ الَّذِي يُسَمَّى ثَوْرًا، مَكَثَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنْ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ حِينَ خَطَبَ قَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ "سُورَةَ التَّوْبَةِ"؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا. قَالَ: اقْرَأْ، فَلَمَّا بَلَغَ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}، بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: أَنَا وَاللَّهُ صَاحِبُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْـزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فأَنْـزَلَ اللَّهُ طُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَقَدْ قِيلَ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}، يَقُولُ: وَقَوَّاهُ بِجُنُودٍ مِنْ عِنْدِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَمْ تَرَوْهَا أَنْتُمْ {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وَهِيَ كَلِمَةُ الشِّرْكِ (السُّفْلَى)، لِأَنَّهَا قُهِرَتْ وَأُذِلَّتْ، وَأَبْطَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَحَقَ أَهْلَهَا، وَكُلُّ مَقْهُورٍ وَمَغْلُوبٍ فَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْغَالِبِ، وَالْغَالِبُ هُوَ الْأَعْلَى {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}، يَقُولُ: وَدِينُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ وَقَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ كَلِمَتُهُ (الْعُلْيَا)، عَلَى الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، الْغَالِبَةُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى}، وَهِيَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}، وَهِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، غَيْرُ مَرْدُودٍ عَلَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى}، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى "الْكَلِمَةِ" الْأُولَى، لَكَانَ نَصْبًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ عَزِيرٌ حَكِيمٌ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ)، فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، لَا يَقْهَرُهُ قَاهِرٌ، وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، وَلَا يَنْصُرُ مَنْ عَاقَبَهُ نَاصَرٌ (حَكِيمٌ)، فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ، وَتَصْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "الْخِفَّةِ" وَ "الثِّقْلِ"، اللَّذَيْنِ أَمَرَ اللَّهُ مَنْ كَانَ بِهِ أَحَدُهُمَا بِالنَّفْرِ مَعَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى "الْخِفَّةِ"، الَّتِي عَنَاهَا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الشَّبَابُ وَمَعْنَى "الثِّقْلِ"، الشَّيْخُوخَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: شِيبًا وَشُبَّانًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: شُيُوخًا وَشُبَّانًا. قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: كُهُولًا وَشُبَّانًا، مَا أَسْمَعُ اللَّهَ عَذَرَ وَاحِدًا!! فَخَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَجَاهِدَ حَتَّى مَاتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّخْعِ، وَكَانَ شَيْخًا بَادِنًا، فَأَرَادَ الْغَزْوَ، فَمَنَعَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، فَأَذِنَ لَهُ سَعْدٌ، فَقُتِلَ الشَّيْخُ، فَسَأَلَ عَنْهُ بَعْدُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا فَعَلُ الشَّيْخُ الَّذِي كَأَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الشَّابُّ وَالشَّيْخُ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: الشَّابُّ وَالشَّيْخُ. قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضِّحَاكِ: كُهُولًا وَشُبَّانًا. قَالَ: حَدَّثَنَا حَبْوَيْهِ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقَمْيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَطِيَّةَ: كُهُولًا وَشُبَّانًا حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، فِي قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: شُبَّانًا وَكُهُولًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: شَبَابًا وَشُيُوخًا، وَأَغْنِيَاءَ وَمَسَاكِينَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: شُيُوخًا وَشُبَّانًا. حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَريزٌ قَالَ، حَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ زَيْدٍ الشُّرَعْبِيُّ قَالَ: نَفَرْنَا مَعَ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى حِمْصٍ قِبَلَ الْأَفْسُوسِ، إِلَى الجَرَاجِمَةِ، فَلَقِيتُ شَيْخًا كَبِيرًا هِمًّا، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، عَلَى رَاحِلَتِهِ، فِيمَنْ أَغَارَ، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْك! قَالَ: فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي اسْتَنْفَرَنَا اللَّهُ خِفَافًا وَثِقَالًا، مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ فَيَبْتَلِيهَ، إِنَّمَا يَبْتَلِي اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ شَكَرَ وَصَبَرَ وَذَكَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: {انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: كُلُّ شَيْخٍ وَشَابٍّ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مَشَاغِيلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ فِي قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مَشَاغِيلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: انْفَرُوا أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، يَقُولُ: انْفَرُوا نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِذَا كَانَ النَّفْرُ إِلَى دُرُوبِ الشَّأْمِ، نَفَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا "خِفَافًا"، رُكْبَانًا، وَإِذَا كَانَ النَّفْرُ إِلَى هَذِهِ السَّوَاحِلِ، نَفَرُوا إِلَيْهَا " {خِفَافًا وَثِقَالًا} "، رُكْبَانًا وَمُشَاةً. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ذَا ضَيْعَةٍ، وَغَيْرِ ذِي ضَيْعَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قَالَ: "الثَّقِيلُ"، الَّذِي لَهُ الضَّيْعَةُ، فَهُوَ ثَقِيلٌ يَكْرَهُ أَنْ يُضَيِّعَ ضَيْعَتَهُ وَيَخْرُجَ وَ "الخَفِيفُ" الَّذِي لَا ضَيْعَةَ لَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: زَعَمَ حَضْرَمِيٌّ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ نَاسًا كَانُوا عَسَى أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ عَلِيلًا أَوْ كَبِيرًا فَيَقُولُ: إِنْ أَجْتَنِبْهُ إِبَاءً، فَإِنِّي آثِمٌ! فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: شَهِدَ أَبُو أَيُّوبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا، ثُمَّ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهُوَ فِي أُخْرَى، إِلَّا عَامًا وَاحِدًا. وَكَانَ أَيُّوبُ يَقُولُ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، فَلَا أَجِدُنِي إِلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَمَّنْ رَأَى الْمِقْدَادَ بْنَ الْأُسُودِ فَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَابُوتٍ مِنْ تَوَابِيتِ الصَّيَارِفَةِ بِحِمْصَ، وَقَدْ فَضَلَ عَنْهَا مِنْ عِظَمِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ! فَقَالَ: أَبَتْ عَلَيْنَا "سُورَةُ الْبُعُوثِ"، {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السُّكُونِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرِيزٌ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو رَاشِدٍ الْحَبْرَانِيُّ قَالَ: وَافَيْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَلَى تَابُوتٍ مِنْ تَوَابِيتِ الصَّيَارِفَةِ بِحِمْصَ، قَدْ فَضَلَ عَنْهَا مِنْ عِظَمِهِ، يُرِيدُ الْغَزْوَ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ! فَقَالَ: أَبَتْ عَلَيْنَا "سُورَةُ الْبُحُوثِ": {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفْرِ لِجِهَادِ أَعْدَائِهِ فِي سَبِيلِهِ، خِفَافًا وَثِقَالًا. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي "الْخِفَافِ" كُلُّ مَنْ كَانَ سَهْلًا عَلَيْهِ النَّفْرُ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَصِحَّةِ جِسْمِهِ وَشَبَابِهِ، وَمَنْ كَانَ ذَا يُسْرٍ بِمَالٍ وَفَرَاغٍ مِنَ الِاشْتِغَالِ، وَقَادِرًا عَلَى الظَّهْرِ وَالرِّكَابِ. وَيَدْخُلُ فِي "الثِّقَالِ"، كُلُّ مَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، مِنْ ضَعِيفِ الْجِسْمِ وَعَلِيلِهِ وَسَقِيمِهِ، وَمِنْ مُعْسِرٍ مِنَ الْمَالِ، وَمُشْتَغِلٍ بِضَيْعَةٍ وَمَعَاشٍ، وَمَنْ كَانَ لَا ظَهْرَ لَهُ وَلَا رِكَابَ، وَالشَّيْخَ وَذُو السِّنِّ وَالْعِيَالِ. فَإِذْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُ فِي "الْخِفَافِ" وِ "الثِّقَالِ" مَنْ وَصَفْنَا مِنْ أَهْلِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَنَا، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- خَصَّ مِنْ ذَلِكَ صِنْفًا دُونَ صِنْفٍ فِي الْكِتَابِ، وَلَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَصَبَ عَلَى خُصُوصِهِ دَلِيلًا وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ بِالنَّفْرِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ خِفَافًا وَثِقَالًا مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَـزَلَ مِنْ "بَرَاءَةٌ": {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَـزَلَ مِنْ "بَرَاءَةٌ": {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}، قَالَ: يُعَرِّفُهُمْ نَصْرُهُ، ويوطِّنُهُمْ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جَاهَدُوا)، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، الْكَفَّارَ (بِأَمْوَالِكُمْ)، فَأَنْفَقُوهَا فِي مُجَاهَدَتِهِمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ، حَتَّى يَنْقَادُوا لَكُمْ فَيَدْخُلُوا فِيهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، أَوْ يُعْطُوكُمُ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ صِغَارًا، إِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَوْ تَقْتُلُوهُمْ (وَأَنْفُسِكُمْ)، يَقُولُ: وَبِأَنْفُسِكُمْ، فَقَاتَلُوهُمْ بِأَيْدِيكُمْ، يُخْزِهُمُ اللَّهُ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ النَّفْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى خِفَافًا وَثِقَالًا وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ التَّثَاقُلِ إِلَى الْأَرْضِ إِذَا اسْتشُنْفِرْتُمْ، وَالْخُلُودِ إِلَيْهَا، وَالرِّضَا بِالْقَلِيلِ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِوَضًا مِنَ الْآخِرَةِ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ فَضْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الْقُعُودِ عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدِ اسْتَأْذَنُوهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ، فَأَذِنَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْكَ وَالْمُسْتَأْذَنِيكَ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ مَعَكَ إِلَى مَغْزَاكَ الَّذِي اسْتَنْفَرَتْهُمْ إِلَيْهِ {عَرَضًا قَرِيبًا}، يَقُولُ: غَنِيمَةً حَاضِرَةً {وَسَفَرًا قَاصِدًا}، يَقُولُ: وَمَوْضِعًا قَرِيبًا سَهْلًا {لَاتَّبَعُوكَ}، وَنَفَرُوا مَعَكَ إِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّكَ اسْتَنْفَرَتْهُمْ إِلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ، وَكَلَّفَتْهُمْ سَفَرًا شَاقًّا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّكَ اسْتَنْهَضَتْهُمْ فِي وَقْتِ الْحَرِّ، وَزَمَانِ الْقَيْظِ وَحِينَ الْحَاجَةِ إِلَى الْكِنِّ {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَيَحْلِفُ لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْذَنُوكَ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ مَعَكَ، اعْتِذَارًا مِنْهُمْ إِلَيْكَ بِالْبَاطِلِ، لِتَقْبَلَ مِنْهُمْ عُذْرَهُمْ، وَتَأْذَنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ، بِاللَّهِ كَاذِبِينَ " {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} "، يَقُولُ: لَوْ أَطَقْنَا الْخُرُوجَ مَعَكُمْ بِوُجُودِ السَّعَةِ وَالْمَرَاكِبِ وَالظُّهُورِ وَمَا لَا بُدَ لِلْمُسَافِرِ وَالْغَازِي مِنْهُ، وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَالْقُوَى، لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ}، يَقُولُ: يُوجِبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، بِحَلِفِهِمْ بِاللَّهِ كَاذِبِينَ، الْهَلَاكَ وَالْعَطَبَ، لِأَنَّهُمْ يُوَرِّثُونَهَا سَخَطَ اللَّهِ، وَيُكْسِبُونَهَا أَلِيمَ عِقَابِهِ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، فِي حَلِفِهِمْ بِاللَّهِ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لِلْخُرُوجِ مُطِيقِينَ، بِوُجُودِ السَّبِيلِ إِلَى ذَلِكَ بِالَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْغَازِي فِي غَزْوِهِ، وَالْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ، وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَقُوَى الْأَجْسَامِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا}، إِلَى قَوْلِهِ (لَكَاذِبُونَ)، إِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ، وَلَكِنْ كَانَ تَبْطِئَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَالشَّيْطَانِ، وَزَهَادَةً فِي الْخَيْرِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا}، قَالَ: هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، أَيْ: إِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا عِتَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، عَاتَبَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذْنِهِ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ، حِينَ شَخَصَ إِلَى تَبُوكَ لِغَزْوِ الرُّومِ، مِنَ الْمُنَافِقِينَ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ}، يَا مُحَمَّدُ، مَا كَانَ مِنْكَ فِي إِذْنِكَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوكَ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ مَعَكَ، وَفِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهُ
{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، لِأَيِّ شَيْءٍ أَذِنْتَ لَهُمْ؟ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}، يَقُولُ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ إِذْ قَالُوا لَكَ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكَ}، حَتَّى تَعْرِفَ مَنْ لَهُ الْعُذْرُ مِنْهُمْ فِي تَخَلُّفِهِ، وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِنْهُمْ، فَيَكُونَ إِذْنُكَ لِمَنْ أَذِنْتَ لَهُ مِنْهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْكَ بِعُذْرِهِ، وَتَعْلَمَ مَنِ الْكَاذِبُ مِنْهُمُ الْمُتَخَلِّفُ نِفَاقًا وَشَكًّا فِي دِينِ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، قَالَ: نَاسٌ قَالُوا: اسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَذِنَ لَكُمْ فَاقْعُدُوا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ فَاقْعُدُوا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} الْآيَةَ، عَاتَبَهُ كَمَا تَسْمَعُونَ، ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ الَّتِي فِي "سُورَةِ النُّورِ"، فَرَخَّصَ لَهُ فِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ إِنْ شَاءَ، فَقَالَ: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}، [سُورَةُ النُّورِ: 62]، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رُخْصَةً فِي ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوِدَيِّ قَالَ: اثْنَتَانِ فَعَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِمَا بِشَيْءٍ: إِذْنُهُ لِلْمُنَافِقِينَ، وَأَخْذُهُ مِنَ الْأَسَارَى، فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، قَرَأْتُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ، قَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنَتْ لَهُمْ} الْآيَةَ، ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي "سُورَةِ النُّورِ": {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ سَرْوَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ مُوَرِّقًا عَنْ قَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ}، قَالَ: عَاتَبَهُ رَبُّهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيمَا الْمُنَافِقِينَ: أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِهِمُ الَّتِي يُعْرَفُونَ بِهَا تَخَلُّفُهُمْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِاسْتِئْذَانِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِهِمُ الْخُرُوجَ مَعَهُ إِذَا اسْتُنْفِرُوا بِالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ. يَقُولُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، لَا تَأْذَنَنَّ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ إِذَا خَرَجْتَ لِغَزْوِ عَدُوِّكَ، لِمَنِ اسْتَأْذَنَكَ فِي التَّخَلُّفِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مُنَافِقٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَمَّا الَّذِي يُصَدِّقُ بِاللَّهِ، وَيُقِرُّ بِوَحْدَانِيّتِهِ وَبِالْبَعْثِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي تَرْكِ الْغَزْوِ وَجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنْ خَافَهُ، فَاتَّقَاهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى طَاعَتِهِ فِي غَزْوِ عَدُوِّهِ وَجِهَادِهِمْ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فَهَذَا تَعْيِيرٌ لِلْمُنَافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَذَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}، [سُورَةُ النُّورِ: 62].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكُ، يَا مُحَمَّدُ، فِي التَّخَلُّفِ خِلَافَكَ، وَتَرْكِ الْجِهَادِ مَعَكَ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَيِّنٍ، الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِهِ {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ}، يَقُولُ: وَشَكَّتْ قُلُوبُهُمْ فِي حَقِيقَةِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَفِي ثَوَابِ أَهْلِ طَاعَتِهِ، وَعِقَابِهِ أَهْلَ مَعَاصِيهِ {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}، يَقُولُ: فِي شَكِّهِمْ مُتَحَيِّرُونَ، وَفِي ظُلْمَةِ الْحَيْرَةِ مُتَرَدِّدُونَ، لَا يَعْرِفُونَ حَقًّا مِنْ بَاطِلٍ، فَيَعْمَلُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِالْآيَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي "سُورَةِ النُّورِ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا قَوْلُهُ: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}، نَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي "النُّورِ": {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ}، إِلَى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، [سُورَةُ النُّورِ: 62]. وَقَدْ بَيَّنَّا "النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَهُنَا.
|